الفنون العربية الادبية .
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الفنون العربية الادبية .

موقع الشعر العربي والتقدم الفني والبرمجي.
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 رواية رجال في الشمس لغسان كنفاني ( الجزء الرابع )....

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
the king of cruise
Admin
the king of cruise


ذكر عدد الرسائل : 128
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 17/09/2007

رواية رجال في الشمس لغسان كنفاني ( الجزء الرابع ).... Empty
مُساهمةموضوع: رواية رجال في الشمس لغسان كنفاني ( الجزء الرابع )....   رواية رجال في الشمس لغسان كنفاني ( الجزء الرابع ).... Icon_minitimeالخميس سبتمبر 27, 2007 12:13 pm

من هنا تابع قراة الرواية الشيقة رجال في الشمس من هنا ::::: Arrow Arrow Arrow

أستطيع أن أهربك إلى الكويت.
كيف ؟
هذا شأني أنا. أنت تريد أن تذهب إلى الكويت أليس كذلك؟ ها هو ذا إنسان بوسعه أن يأخذك إلى هناك.. ماذا تريد غير ذلك؟
كم ستأخذ مني ؟
هذا ليس مهما في الواقع ...
إنه المهم .
ابتسم أبو الخيزران ابتسامة واسعة فانشقت شفتاه عن صفين من الأسنان الكبيرة الناصعة البياض ثم قال:
سأخبرك الأمر بكل صراحة.. أنا رجل مضطر للذهاب إلى الكويت، قلت لنفسي : لا بأس من أن أرتزق فأحمل معي بعض من يريد أن يذهب إلى هناك .. كم بوسعك أن تدفع؟
خمسة دنانير..
فقط ؟
لا أملك غيرها.
حسناً، سأقبلها..
وضع أبو الخيزران يديه في جيبه ومضى يسير بخطوات واسعة حتى أوشك مروان أن يضيعه، فاضطر إلى اللحاق به مسرعاً، إلا أن أبا الخيزران وقف فجأة وهز أصبعه أمام فمه:
.. ولكن ! لا تقل ذلك لأي إنسان.. أعني إذا طلبت من رجل آخر عشرة دنانير فلا تقل له إنني أخذت منك خمسة فقط..
ولكن كيف تريدني أن أثق بك؟
فكر أبو الخيزران قليلا ثم عاد فابتسم تلك الابتسامة الواسعة وقال:
معك حق ! ستعطيني النقود في ساحة الصفاة في الكويت.. في العاصمة في منتصف العاصمة، مبسوط؟
موافق !
ولكننا سنحتاج إلى عدد آخر من المسافرين.. وعليك أن تساعدني، هذا شرط.
إنني أعرف واحدا ينزل معي في الفندق ويرغب في السفر.
هذا رائع، أنا أعرف واحداً آخر.. إنه من بلدتي في فلسطين أيام زمان قابلته صدفة هنا.. ولكنني لم أسألك.. ماذا تريد أن تفعل في الكويت.. هل تعرف أحدا؟
وقف مرة أخرى، إلا أن أبا الخيزران شده من ذراعه فعاد يخب إلى جانبه..
إن أخي يعمل هناك.
هز أبو الخيزران رأسه فيما كان يسير متعجلا ثم رفع كتفيه فغاصت عنقه وبدأ أقصر من ذي قبل..
وإذا كان أخوك يشتغل هناك.. فلماذا تريد أنت أن تشتغل؟ الذين في سنك ما زالوا في المدارس !..
لقد كنت في المدرسة قبل شهرين، ولكنني أريد أن أشتغل الآن كي أعيل عائلتي ...
وقف أبو الخيزران ثم رفع كفيه من جيبه وثبتهما على خصريه وأخذ يحدق إليه ضاحكاً:
ها ! لقد فهمت الآن.. أخوك لم يعد يرسل لكم نقوداً، أليس كذلك؟
هز مروان رأسه وحاول أن يسير، إلا أن أبا الخيزران شده من ذراعه فأوقفه..
لماذا؟ هل تزوج ؟
حدق مروان إلى أبي الخيزران مشدوها ثم همس:
كيف عرفت؟
ها ، الأمر لا يحتاج إلى ذكاء خارق، كلهم يكفون عن إرسال النقود إلى عائلاتهم حين يتزوجون أو يعشقون..
أحس مروان بخيبة أمل صغيرة تنمو في صدره، لا لأنه فوجئ، بل لأنه اكتشفت أن الأمر شائع ومعروف، لقد كان يحسب أنه يخنق صدره على سر كبير لا يعرفه غيره: حجبه عن أمه وأبيه طوال شهور وشهور.. وها هو الآن يبدو على لسان أبي الخيزران كأنه قاعدة معروفة وبديهية:
ولكن.. لماذا يفعلون ذلك؟ لماذا يتنكرون لـ...
صمت فجأة، كان أبو الخيزران قد بدأ يضحك:
أنا مبسوط أنك ستذهب إلى الكويت لأنك ستتعلم هناك أشياء عديدة.. أول شيء ستتعلمه. هو أن: القرش يأتي أولا، ثم الأخلاق.
حين تركه أبو الخيزران على أمل لقاء بعد الظهر كان قد فقد. من جديد. كل تلك المشاعر الرائعة التي كانت تغسله، من الداخل، طوال الصباح.. بل أنه استغرب كيف تكون تلك الرسالة التي كتبها لأمه قد أعطته الشعور الرائق الذي جعل خيبة أمله تبدو أقل قيمة مما هي في الواقع.. رسالة سخيفة كتبها تحت وطأة الشعور بالوحدة والأمل على سطح فندق حقير مرمي في طرف الكون.. ما هو الخارق في الأمر؟ أيحسب أن أمه لا تعرف القصة كلها؟ ماذا كان يريد أن يقول ؟ أكان يريد أن يقنعها بأن هجران زوجها لها ولأولادها أمر رائع وطبيعي؟ إذن لماذا كل تلك الثرثرة؟ أنه يحب والده حبا خارقا لا يتزعزع.. ولكن هذا لا يغير شيئا من الحقيقة الراعبة.. الحقيقة التي تقول أن أباه قد هرب.. هرب.. هرب.. تماما كما فعل زكريا الذي تزوج وأرسل له رسالة صغيرة قال له فيها أن دوره قد أتى، وأن عليه أن يترك تلك المدرسة السخيفة التي لا تعلم شيئا وأن يغوص في المقلاة مع من غاص..
كل عمره كان على طرفي نقيض مع زكريا.. بل إنهما كانا. في الواقع. يكرهان بعضهما.. زكريا لم يكن يستطيع أن يفهم قط لماذا يتوجب عليه أن يصرف على العائلة طوال عشر سنوات بينما يروح مروان ويجيء إلى المدرسة مثل الأطفال.. وكان هو يريد أن يصبح طبيباً.. كان يقول لأمه إن زكريا لن يفهم قط معنى أن يتعلم الإنسان لأنه ترك المدرسة حين ترك فلسطين وغاص، منذ. ذاك، في المقلاة، كما يحب أن يقول.
وها هو الآن قد تزوج دون أن يقول ذلك لأحد غيره، كأنه كان يريد أن يضعه أمام ضميره وجها لوجه.. ولكن ماذا ترك له ليختار؟ لا شيء سوى أن يترك المدرسة ويعمل، يغوص في المقلاة من هنا وإلى الأبد !
لا بأس ! لا بأس.. أيام قليلة ويصل إلى الكويت.. إذا ساعده زكريا كان ذلك أفضل، إذا تجاهله فلسوف يعرف كيف يهتدي إلى أول الطريق كما اهتدى الكثيرون.. ولسوف يرسل كل قرش يحصله إلى أمه، سوف يغرقها ويغرق إخوته بالخير حتى يجعل من كوخ الطين جنة إلهية.. ويجعل أباه يأكل أصابعه ندماً !
ورغم ذلك، فإنه لا يكره أباه إلى هذا الحد، لسبب بسيط هو أن أباه ما زال يحبهم جميعاً.. لقد تأكد من ذلك تماما حين ذهب إليه يودعه قبل أن يسافر، لم يقل لأمه أنه سيذهب إلى بيت شفيقة وإلا لكانت جنت.. قال له أبوه هناك:
أنت تعرف يا مروان بأن لا يد لي في الأمر، هذا شيء مكتوب لنا منذ بدء الخليقة.
قالت شفيقة:
قلنا لأمك أن تأتي وتسكن هنا لكنها لم تقبل.. ماذا تريدنا أن نفعل أكثر من ذلك؟
كانت جالسة فوق بساط من جلد ماعز، وكان العكاز ملقى إلى حانبها، وفكر هو: ترى أين ينتهي فخذها؟ كان وجهها جميلا ولكنه حاد الملامح مثل وجوه كل أولئك المرضى الذين لا يرجى لهم الشفاء، وكانت شفتها السفلى مقوسة كأنها على وشك أن تبكي..
قال أبوه:
خذ ، هذه عشرة دنانير.. قد تنفعك.. واكتب لنا دائما.
حين قام رفعت شفيقة ذراعيها في الهواء ودعت له بالتوفيق، كان صوتهـا فاجعا وحين التفت إليها قبل أن يجتاز الباب بدأت تشهق بالبكاء. وقال له أبوه:
وفقك الله يا مروان يا سبع.
وحاول أن يضحك إلا أنه لم يستطع فأخذ يربت بكفه الكبيرة الخشنة على ظهره بينما تناولت شفيقة عكازها واستوت واقفة بحركة سريعة، كانت قد كفت عن البكاء.
صفق الباب وراءه وسار. كان ما زال يسمع صوت عكاز شفيقة يقرع البلاط برتابة، وعند المنعطف تلاشى الصوت.


الصفقة
اقتاد مروان زميله أسعد إلى موعده مع أبي الخيزران، وصلا متأخرىن قليلا فوجد أبا الخيزران، بانتظارهما، جالساً مع أبي قيس فوق مقعد إسمنت كبير على رصيف الشارع الموازي للشط.
لقد اجتمعت العصابة كلها الآن أليس كذلك؟
صاح أبو الخيزران ضاحكا وهو يضرب كتف مروان بكفه ويمد الأخرى ليصافح أسعد.
هذا هو صديقك إذن.. ما اسمه؟
أجاب مروان باقتضاب:
أسعد.
دعيني إذن أعرفكما على صديقي العجوز. “أبو قيس..” وبهذا تكون العصابة قد اكتملت.. لا بأس أن تزداد واحداً.. ولكنها الآن كافية أيضا.
قال أسعد:
يبدو لي أنك فلسطيني.. أأنت الذي سيتولى تهريبنا؟
نعم، أنا.
كيف؟
هذا شأني أنا..
ضحك أسعد بسخرية ثم قال ببطء شادا على كلماته بعنف:
لا يا سيدي.. أنه شأننا نحن.. يجب أن تحكي لنا كل التفاصيل، لا نريد متاعب منذ البدء.
قال أبو الخيزران بصوت حاسم:
سأحكي لكم التفاصيل بعد أن نتفق، وليس قبل ذلك..
قال أسعد:
لا يمكن أن نتفق قبل أن نعرف التفاصيل، ما رأي الشباب؟
لم يجب أحد، فأكد أسعد من جديد:
ما رأي العم أبو قيس؟
الرأي رأيكم..
ما رأيك يا مروان؟
أنا معكم.
قال أسعد بعنف:
إذن، دعونا نختصر الوقت.. يبدو لي أن العم أبو قيس غير خبير بالأمر، أما مروان فإنها تجربته الأولى.. أنا عتيق في هذه الصنعة، ما رأيكم أن أتفاوض عنكم ؟
رفع أبو قيس كفه في الهواء موافقاً، وهز مروان رأسه، فالتفت أسعد إلى أبي الخيزران..
لقد رأيت: الشباب سلموني الأمر، فدعني أقول لك شيئا: إننا من بلد واحد.
نحن نريد أن نرتزق وأنت تريد أن ترتزق، لا بأس، ولكن يجب أن يكون الأمر في منتهى العدل.. سوف تحكي لنا بالتفصيل كل خطوة، وسوف تقول لنا بالضبط كم تريد، طبعا سنعطيك النقود بعد أن نصل وليس قبل ذلك قط ..
قال أبو قيس:
الأخ أسعد يحكي الحق يجب أن نكون على بينه من الأمر ، وكما يقول المثل :
ما يبدأ بالشرط ينتهي بالرضا .
رفع أبو الخيزران كفيه من جيبه ووضعهما على خصريه ، ثم نقل بصره فوق الوجوه جميعا ببطء وببرود حتى قرقراه فوق وجه أسعد :
أولا كل واحد منكم سيدفع عشرة دنانير .. موافقون ؟
قال أبو قيس..
أنا موافق
قال أسعد:
أرجوك .. لقد سلمتني الأمر إذن دعني أحكي ... عشرة دنانير مبلغ كبير ، أن المهرب المحترف يأخذ ، عشر دينارا .. ثم ..
قاطعه أبو الخيزران:
لقد اختلفنا إذن قبل أن نبدأ، هذا ما كنت أخشاه .. عشرة دنانير لا تنقص فلساً.. السلام عليكم.
أدار ظهره وخطا خطوتين بطيئتين قبل أن يلحقه أبو قيس صائحا :
لماذا غضبت ؟ الموضوع سؤال وجواب والاتفاق أخو الصبر ..
حسنا ، نعطيك عشرة دنانير .. ولكن كيف ستأخذنا ؟
ها ! نحن الآن في شغل الجد .. اسمع . جلس أبو الخيزران على مقعد الإسمنت ووقف الثلاثة حواليه ومضى يشرح مستعيناً بيديه الطويلتين،
لدي سيارة مرخصة لاجتياز الحدود.. ها ! يجب أن تنتبهوا: أنها ليست سيارتي.. أنا رجل فقير أكثر منكم جميعا وكل علاقتي بتلك السيارة أنني سائقها ! صاحب هذه السيارة رجل ثري معروف، ولذلك فإنها لا تقف كثيرا على الحدود، ولا تتعرض للتفتيش، فصاحب السيارة معروف ومحترم، والسيارة نفسها معروفة ومحترمة وسائق السيارة، تبعا لذلك، معروف ومحترم.
كان أبو الخيزران سائقاً بارعاً، فقد خدم في الجيش البريطاني في فلسطين قبل عام 1948 أكثر من خمس سنين، وحين ترك الجيش وانضم إلى فرق المجاهدين كان معروفا بأنه أحسن سائق للسيارات الكبيرة يمكن أن يعثر عليه، ولذلك استدعاه مجاهدو الطيرة ليقود مصفحة عتيقة كان رجال القرية قد استولوا عليها إثر هجوم يهودي.. ورغم أنه لم يكن خبيرا في قيادة المصفحات إلا أنه لم يخيب آمال أولئك الذين وقفوا على جانبي الطريق يتفرجون عليه وهو يدخل من الباب المصفح الصغير ويغيب لحيظات، ثم يهدر المحرك بالضجيج وتمضي المصفحة تدرج في الطريق الرملي الضيق. إلا أن المصفحة ما لبثت أن تعطلت، ولم تجد كل المحاولات التي بذلها أبو الخيزران لإعادتها إلى سيرتها السوية.. وإذا كانت خيبة أمل الرجال كبيرة، فإن خيبة أمله كانت أكبر، ولكن أبا الخيزران - على أي حال- أضاف إلى تجاربه في عالم المحركات تجربة أخرى، ومن ذا الذي يستطيع أن يقول أن هذه التجربة لم تنفعه حين انضم إلى سائقي سيارات الحاج رضا في الكويت؟
لقد استطاع ذات يوم أن يقود سيارة ماء جبارة أكثر من ست ساعات في طريق ملحى موحل دون أن تغوص في الأرض وتتعطل مثلما حدث لجميع سيارات القافلة.. كان الحاج رضا قد خرج مع عدد من رجاله إلى الصحراء ليغيبوا عدة أيام في القنص.. إلا أن الربيع كان خادعاً، وأثناء عودتهم كانت الطريق تبدو بيضاء صلدة، وهذا ما دفع سائقي السيارات لاقتحامها دون وجل، وهناك بدأت السيارات، الكبيرة والصغيرة، تغوص في الوحل واحدة أثر الأخرى..إلا أن أبا الخيزران، الذي كان يقود سيارته الجبارة خلف الجميع واصل السير ببراعة ودون أن يتعطل ثانية واحدة.. وحين شارف سيارة الحج رضا الرمادية الغارقة حتى ثلاثة أرباع عجلاتها الورائية في الوحل، أوقف سيارته وهبت ثم اقترب من الحج وقال له:
ما رأي عمي الحج رضا أن يصعد إلى سيارتي؟ أن انتشال هذه السيارات يستلزم أكثر من أربع ساعات، وفي هذا الوقت سيكون عمي الحج رضا قد وصل إلى بيته.
قال الحج رضا:
تمام ! أن صوت محرك سيارتك أرحم من الوقوف هنا مدة أربعة ساعات. وقاد أبو الخيزران سيارته الضخمة طوال ست ساعات فوق تلك الأرض الخادعة التي تبدو بيضاء صلدة بسبب طبقة رقيقة من الملح الذي جف على السطح، وكان أبو الخيزران، طوال الطريق، يحرك مقود سيارته حركات خفيفة وسريعة ذات اليمين وذات اليسار كي تستطيع العجلتان الأماميتان أن تفتحا طريقاً أوسع قليلا من حاجتهما..
لقد سر الحج رضا للغاية من براعة أبي الخيزران وتحدث بذلك لكل أصدقائه طوال شهور.. وقد سر الحج أكثر حين نما إليه أن أبا الخيزران رفض عروضا عديدة للعمل عند سواه، بعد أن تفشت هذه الأخبار، واستدعاه وأثنى عليه ثم زود راتبه قليلا.. ما هو أهم من ذلك أن الحج رضا بات يشترط أن يكون أبو الخيزران رفيقا ضرورياً لكل رحلة قنص أو سفر بعيد.
منذ أسبوع خرج الحج رضا في قافلة من سياراته إلى رحلة قنص أقامها خصيصا من أجل ضيوف ينزلون عنده، وقد كلف أبو الخيزران بقيادة سيارة الماء الكبيرة، التي سترافق القافلة طوال الرحلة وتؤمن الماء الوفير للرجال أثناء الرحلة التي قد تستغرق أكثر من يومين.. لقد ضربت القافلة بعيدا في الصحراء حتى أن الحج رضا فضل أن يسلك في طريق عودته دروباً أخرى تصل به إلى الزبير، ومن الزبير يستطيع أن يسلك الطريق الرئيسي الذي يعود إلى الكويت.. كان من الممكن أن يكون أبو الخيزران الآن في الكويت، مع بقية القافلة لو لم يصب سيارته الكبيرة عطل صغير يضطره للبقاء في البصرة
يومين آخرين حتى يصلحه، ثم يلحق بمن سبق.
أنت تريد إذن أن تضعنا داخل خزان ماء سيارتك في طريق عودتك؟
بالضبط ! لقد قلت لنفسي: لماذا لا تنتهز الفرصة فترتزق بقرشين نظيفين طالما أنت هنا، وطالما أن سيارتك لا تخضع للتفتيش؟
نظر مروان إلى أبي قيس، ثم إلى أسعد فنظرا إليه بدورهما متسائلين:
اسمع يا أبا الخيزران.. هذه اللعبة لا تعجبني ! هل تستطيع أن تتصور ذلك؟ في مثل هذا الحر من يستطيع أن يجلس في خزان ماء مقفل؟
لا تجعل من القضية مأساة، هذه ليست أول مرة.. هل تعرف ما الذي سيحدث؟ ستنزلون إلى الخزان قبل نقطة الحدود في صفوان بخمسين متراً، سأقف على الحدود أقل من خمس دقائق، بعد الحدود بخمسين مترا ستصعدون إلى فوق.. وفي المطلاع على حدود الكويت، سنكرر المسرحية لخمس دقائق أخرى، ثم هوب ! ستجدون أنفسكم في الكويت !
هز أسعد رأسه ثم حدق إلى الأرض لبرهة وقد قلب شفته السفلى، أما مروان فقد أخذ يتلهي بقصف عود جاف، وواصل أبو قيس التحديق إلى السائق طويل القامة.. وفجأة قال مروان:
هل يوجد ماء في الخزان؟.
انفجر أبو الخيزران ضاحكاً وابتسم أسعد:
طبعاً لا .. ماذا تعتقد ؟ هل أنا مهرب أم معلم سباحة؟.
وكأنما راقت الفكرة لأبي الخيزران فقد مضى يقهقه ويضرب فخذيه بكفيه ويدور حول نفسه..
ماذا تعتقد؟ هل أنا معلم سباحة؟ أيها الصغير: إن الخزان لم ير الماء منذ ستة شهور !
قال أسعد بهدوء:
حسبت أنك كنت تنقل الماء في رحلة قنص قبل أسبوع؟
أوف.. أنت تعرف، تعرف ماذا أقصد.
لا، لا أعرف.
أقصد منذ ستة أيام.. إن المرء يبالغ أحياناً.. والآن، هل اتفقنا؟.. دعونا ننهي هذا الاجتماع الخطير !
وقف أبو قيس مهيئا نفسه للقول الفصل ولكنه قبل أن ينطق دور بصره على الجميع وتوقف هنيهة وهو ينظر إلى أسعد كأنه يرجوه العون، ثم اقترب من أبي الخيزران..
اسمع يا أبا الخيزران.. أنا رجل درويش ولا أفهم بكل هذه التعقيدات.. ولكن قصة رحلة القنص تلك، لم تعجبيني.. تقول أنك حملت للحج رضا، ماء، ثم تقول الآن إن خزان سيارتك لم يشم رائحة الماء منذ ستة أشهر. سأقول لك الحقيقة وأرجو أن لا تغضب : أنا أشك في أنك تملك سيارة ..
التفت أبو قيس للبقية ومضى يكمل بصوت حزين:
أنا أفضل أن أدفع خمسة عشر ديناراً وأذهب مع مهرب عن طريق الصحراء..
لا أريد مزيدا من المشاكل.
ضحك أبو الخيزران وقال بصوت عال:
اذهب وجرب.. أتحسب أنني لا أعرف هؤلاء المهربين ؟ سيتركونكم في منتصف الطريق ويذوبون مثل فص الملح ! وأنتم بدوركم ستذيبون في قيظ آب دون أن يشعر بكم أحد.. اذهب اذهب وجرب.. قبلك جرب الكثيرون.. تريد أن أدلك ؟ لماذا تحسب أنهم يأخذون منكم المبلغ سلفا؟
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hashm.ahlamontada.com
 
رواية رجال في الشمس لغسان كنفاني ( الجزء الرابع )....
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الفنون العربية الادبية . :: 
الشعر العام
 :: القصص والروايات.
-
انتقل الى: